بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي العز المجيد، والبطش الشديد، المبدأ المعيد، الفعال لما يريد، المنتقم ممن عصاه بالنار بعد الإنذار بها والوعيد،
أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا كفئ ولا عدل ولا ند ولا نديد.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه) وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى.
أيها الأخوة في الله:
استأذنكم في حديث خاص إلى أخ لي بينكم قد أراه في كل صف من صفوفكم، قد أراه بين كل اثنين منكم، أخ لي لم يسلم من أخطاء سلوكية وكلنا خطاء، لم ينج من تقصير بالعبادة وكلنا مقصر، ربما رأيته حليق اللحية طويل الثوب، بل ربما أسر ذنوبا أخرى ونحن المذنبون أبناء المذنبين.
أي نعم أريد أن أتحدث إليك أنت أخي حديثاً أخصك به، فهل تفتح لي أبوب قلبك الطيب، ونوافذ ذهنك النير، فو الله الذي لا إله غيره إني لأحبك.
أحبك حبا يجعلني أشعر بالزهو كلما رأيتك تمشي خطوة إلى الأمام، وأشعر والله بالحسرة إذا رأيتك تراوحُ مكانك، أو تتقهقرُ ورائك، أحدثك حديثا أسكب روحي في كلماته، وأمزق قلبي في عبارته، إنه أخي حديث القلبِ إلى القلب:
حديث الروحِ للأرواحِ يسري.........وتدركه القلوب بلا عنائي
أخي وحبيبي، هل تظنُ أن أخطائنا أمرا تفردنا به ولم نسبق إليه ؟
كلا فما كنا في يوم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، ولكن نحن بشر معرقون في الخطيئة، مذنبون يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم، وكل من نرى من عباد الله الصالحين لهم ذنوب وخطايا.
قال ابنُ مسعود لأصحابه وتلاميذه وقد تبعوه:
(لو علمتم بذنوبي لرجمتموني بالحجارة ).
لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
أي والله أخي لقد أحرقتنا الذنوب وآلمتنا المعاصي ولكن أيها الحبيب المحب أرعني سمعك يا رعاك الله:
إن هذه الخطايا ما سلمنا منها ولن نسلم.
ولكن الخطر أن تسمح للشيطان أن يستثمر ذنبك، ويرابي في خطيئتك، أتدري كيف ذلك؟
يلقي في روعك أن هذه الذنوب خندقا يحاصرك فيه، لا تستطيع الخروج منه.
يلقي في روعك أن هذه الذنوب تسلبك أهلية العمل لهذا الدين أو الاهتمام به.
ولا يزال يوحي إليك دع أمر الدين والدعوة لأصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة.
وهكذا يضخم هذا الوهم في نفسك حتى يشعرك أنك فئة والمتدينون فئة أخرى.
وهذه يا أخي حيلة إبليسية ينبغي أن يكون عقلك أكبر وأوعى من أن تمرر عليه.
فأنت يا أخي متدين من المتدينين.
أنت تتعبد لله بأعظم عبادة تعبد بها بشر لله، أنت تتعبد لله بالتوحيد.
أنت الذي حملك إيمانك فطهرت أطرافك بالوضوء وعظمت إلهك بالركوع وخضعت له بالسجود.
أنت أخي صاحب الفم المعطر بذكر الله ودعائه، والقلب المنور بتعظيم الله وإجلاله.
فهنيئا لك توحيدك، وهنيئا لك إيمانك.
إنك يا أخي صاحب قضية، أنت أكبر من أن تكون قضيتك فريق كروي يفوز أو يخسر.
أنت أكبر من أن تنتهي آمالك عند زوجة وبيت وولد.
أنت أكبر من تدور همومك حول شريط غنائي أو سفر للخارج.
أنت أخي أكبر من أن تدور همومك حول المتعة والأكل.
فذلك ليس شأنك، هذا شأن غيرك ممن قال الله فيهم:
)وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)(محمد:12)
أي أخي، أنت من تعيش لقضية أخطر وأكبر، إنها قضية هذا الدين الذي تتعبد الله به، هذا الدين الذي هو سبب لوجودك في هذه الدنيا، وقدومك إلى هذا الكون:
)وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)
وإذن لي أن أذكرك مرة أخرى أن تقصيري وإياك في طاعة ربنا، أو خطأي وإياك في سلوكنا لا يحلننا أبدا من هذه المسؤولية الكبرى، ولا يعفينا أبدا من هذه القضية الخطيرة.
انظر يا رعاك الله إلى هذين الموقفين، وأرجو أن تنظر إليهما بمجهر بصيرتك نظرة فاحصة.
هذا الصحابي الجليل كعب بن مالك :
أذنب ذنبا وتخلف عن الخروج مع المسلمين على غزوة تبوك، وعندما عاد المسلمون عوتب على خطئه، بل عوقب وهجر فلم يعد أحد يكلمه فتغيرت عليه الأرض فما هي بالأرض التي يعرف.
وتغير عليه الناس فما هم بالناس الذي كان يعرف، ذلك جعل كعب رضي الله عنه ينظر في لهفة وقد تنكرت له الأرض والناس فهو يلتمس حركة من بين شفة ، أو نظرة يحيى بها الأمل.
بينما هو كذلك طريدا شريدا لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة أو يحييه بابتسامة أو يواسيه بنظرة وهو الشاب الجلد الموفور الحماس، بينما هو كذلك إذا به يتلقى كتابا ممن ؟
من ملك غسان، الملوك يراسلونه ؟ نعم.
وفض الرسالة فإذا فيها الكتاب التالي: ( أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار مهانة فالحق بنا نواسيك).
الملوك يطلبونه أن يكون نديمهم وجليسهم عجبا.
أنظر يا رعاك الله، إن هذا الذنب وهذا العقاب لم يحلل كعبا من ولائه لدينه، لم يحلله من ولائه لعقيدته، لم يحلله من قضيته الكبرى، لقد نظر إلى هذا الكتاب على أنه جزء من الابتلاء. فحمل الكتاب ثم أوقد التنور وقال:
هذا والله من البلاء، فأحرق الكتاب في التنور وبقي يعاني مرارة الهجمة وألم القطيعة.
ثم أنظر أخرى إلى أبي محجن الثقفي رضي الله عنه:
رجل أبتلي بشرب الخمر فأدمنها ولم يستطع التخلص منها فكان يجاء به فيجلد، وفي معركة القادسية كان هذا الشارب الخمر جنديا يقاتل، ولم تكن خطيئته قيدا يصده عن الجهاد.
ويشرب الخمر وهو في نفير الجهاد فيؤتى به إلى سعد أبن أبي قاص رضي الله عنه، فيأمر أن يجعل القيد في رجله ويحبس، ويحرم من فرصة المشاركة في المعركة.
أهذا عقاب المخطئين؟ نعم.
هكذا يعاقب المخطئ ما دام قلبه يستشعر الولاء للدين، عوقب بأن تفوت عليه فرصة الاشتراك في القتال.
وكانت تجربة قاسية آلمت أبا محجن، آلمته أشد الألم حتى إذا سمع صليل السيوف ووقع الرماح وهزيم الخيل جعلت نفسه تجيش حسرات وجعل يُنشد:
كفى حزنا أن تلتقي الخيل بالقنى.......وأترك مشدودا إلي وثاقي
إذا قمت عناني الحديد وغلقت.........مصارع دوني قد تصم المنادي.
ألم وحسرة يشعر بها السكير شارب الخمر الذي لا يحول شربه الخمر ولائه لدينه.
وكان سعد رضي الله عنه قد أصابته القروح فلم يستطع الاشتراك في المعركة.
دعا أبو محجن زوجة سعد وقال لها:
يا سلمى فكي وثاقي وأعطيني فرس سعد البلقاء أقاتل عليها.
وولله الذي لا إله إلا هو لأن أنجاني الله لأعودن حتى أضع رجلي في القيد، وإن أنا قتلت استرحتم مني.
فأشفقت عليه ورحمته وحلت قيده ,أعطته الفرس، فركبها وأخذ رمح سعد فأخذ يجول بين الكتائب، فلا يفر على كتيبة إلا كسرها، ولا على جمع إلا فرقه وسعد ينظر بعين العجب ويقول:
الضرب ضرب أبي محجن، والكر كر البلقاء، وأبو محجن في القيد.
حتى إذا أنتهي النهار عاد أبو محجن رضي الله عنه وجعل رجليه في القيد، فلم تحتمل سلمى رضي الله عنها هذا الموقف، وذهبت إلى سعد تخبره الخبر، فما ملك سعد نفسه إلا أن قام فحل قيوده بيديه الكريمتين.
لم يملك سعد خال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفسه إلا أن قام إلى هذا الشارب للخمر يحل قيوده بيديه ويقول:
والله لا أجلدك على الخمر أبدا.
فقال أبو محجن: وأنا والله الذي لا إله إلا هو لا أشرب الخمر بعد اليوم أبدا، أما إني كنت أشربها يوم كنت أطهر بالجلد، أما الآن فلا.
أخي أشعر نفسك هذا الموقف ثم أعلم أن الخطايا ليست عذرا للتحلل من الولاء للدين، ولا من العمل له، ولا من نصرته، ولا من الغيرة عليه. ولولا ذلك لما أنتصر للدين منتصر ولما قام للدين قائم.
أيها الحبيب المحب:
إن الولاء للدين والغيرة عليه مسؤولية المسلم من حيث هو مسلم مهما كان عليه من تقصير، ومهما قارف من أثم مادم أن له بهذا الدين سبب واصل، وكل مسلم من المسلمين يتحمل مسئوليته في تأييد الدين ونصره:
) فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف: 157).
هل تذكرت أخي أنك جزء من هذه الأمة التي ينبغي أن تكون في المقدمة في عصر تتسابق فيه الأمم لصنع المستقبل، عصرا ينبغي أن نقتحمه متحدين فهل فكرت في إسهام حقيقي منك في ذلك ؟
هل تذكرت أخي أن دينك هذا الذي تدين الله به مستهدفا بعداء مرير وكيد طويل، واقرأ إن شئت عن قادة الغرب ماذا يقولون لتقف على طرف من هذا العداء. فهل فكرت وإياك في المواجهة ؟
أخي هل آلمتك مجازر المسلمين ورخص دمائهم فإذا هي أرخص من ماء البحر واستعانة العالم بمدن المسلمين تباد ودولهم تبتلع في الوقت الذي تصاب فيه الدنيا بالأرق لرهينتين غربيتين.
فهل تحركت فينا أخي روح الجسد الواحد ؟
أيها الحبيب المحب:
هل فتشت في نفس، وفتشت في نفسك وتساءلنا كم تبلغ مساحة الإسلام من خارطة اهتماماتنا ؟
كم نبذل للدين ؟
كم نجهد للدين ؟
كم نهتم للدين ؟
هل هو قضية في حياتنا تتراء لنا ؟ أم قد رضينا بعبادات تحولت إلى عادات !
إننا يا أخي إذا لم ننفر لهذا الدين بكليتنا فإنا ورب البيت نخشى أن ينالنا ذاك الوعيد الشديد الذي تكاد السماوات يتـفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أسمعه في قول ربك جل جلاله:
)إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:39)
لنعد السؤال على أنفسنا كرة أخرى:
كم يعيش الدين في حياتنا ؟
كم يشغل من مساحة اهتماماتنا ؟
إئذن لي يا أخي، إئذن لي بكلام أكثر تفصيلا:
هل أخذت يوما كتاب الله فقرأته مستشعرا أن الله جل جلاله بكبريائه وعظمته يخاطبك ويتحدث إليك أنت العبد الصغير القليل ؟
أخي أي تكريم لك ذلك التكريم العلوي الجليل، أي رفعة لك يرفعها هذا التنزيل، أي مقام يتفضل به عليك خالقك الكريم!
أخي هل جلست يوما تربي نفسك بقراءة سيرة نبيك وحبيبك محمد (صلىالله عليه وسلم) الذي تؤمن به، وتعبد الله بشرعه، الذي تحبه، والذي أحبك وأشتاق إلى لقائك، نعم نبيك اشتاق إلى لقائك وقال:
(وددت أنا رأينا إخوانا لنا، قالوا يا رسول الله أو لسنا إخوانك؟ قال لا أنتم أصحابي، أخواني الذين لم يأتوا بعد )، فهل اشتقت إلى نبي اشتاق إليك ؟
أخي هل نظرت وإياك إلى إخواننا الصالحين السابقين في الخيرات، الذين هم أكثر من جدا في الطاعة، نشاطا في الدعوة، وتوقيرا للسنة، هل نظرت إليه فكيف كانت نظرتك ؟
آما إني لا أتوقع منك أن تزدريهم، ولا أن تخذلهم، ولكن أحبهم تكن منهم فالمرء مع من أحب، وذلك يستلزم نصرتهم والذب عن أعراضهم والتعاون معهم.
أخي هل بذلت جهدا في الدعوة ولو كان قليلا ؟
هل أهديت لقريب أو زميل شريطا بعد أن سمعته ؟ أو كتيب بعد أن قرأته ؟
أخي، هذه المنكرات التي في مجتمعنا قد غص بها لم تنتشر في يوم وليلة، ولكن انتشرت لأن واحدا فعل وواحدا سكت. وهما شريكان في صنع ذلك المنكر.
فهل استشعرت وجوب مشاركتك في إزالة المنكر وعلمت أنه لابد أن تكون مساهم في الإنكار.
أخي إن في مجالسنا ومجتمعاتنا من يشوه على الناس مفاهيمهم ويلبس عليهم دينهم وينتقص أهل الصلاح منهم.
فهل وقفت منافحا ومدافعا بالتي هي أحسن لأنك تعلم أن السكوت حين إذ خيانة للمبدأ وجُبن في الدفاع عن الحق الذي تعتقده ؟
أخي لا تكتفي بالتعاطف مع الأخيار الأبرار وترى ذلك فضلا منك، بل يجب عليك أن تكون متعاطفا ومتعاونا أيضا لأنك تعلم أن ذلك من مسئوليتك.
أخي وحبيبي:
تذكر رعاك الله انك بإيمانك ذو نسبٍ عريق ضارب في عمق الزمن، وأنك واحد من ذلك الموكب المبارك الذي يقوده ذلك الركب الطيب، نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:
)إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)
إن الظن بك أخي حينئذ أن تكون معتزا بأيمانك.
واثقا من نفسك، باذلا لدينك ما يمكنك بذله.
داعيا لمبدئك وقضيتك متميزا عن غيرك ممن لا يهتم بهذا كله. متميزا عن السلبيين الذين نقول لهم:
كفوا أذاكم عن الناس فهو صدقة منكم على أنفسكم.
قد اختارنا الله في دعوته.......وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم........ومنا الحفيظ على ذمته
أخي:
ستبيد جيوش الظلام....... ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروجك إشراقها.....ترى الفجر يرمقنا من بعيد
أخي، لا أريد أن أهون الذنوب فإنها إذا اجتمعت على الرجل أهلكته.
لا أريد أن أهون الخطايا فرب خطيئة كان عقابها طمس البصيرة.
ولكن أقول ينبغي أن لا تكون الذنوب خندقا يحاصرنا عن العمل لهذا الدين.
أخي الحبيب، هذا شجن من شجون أهاتف به قلبك الطيب، بنصح المحب، ومحبة الناصح.
وإن في إيمانك ونقاء أعماقك ما يقنع فيك كل مريد الخير لك.
والله أسأل أن يكلأك برعايته، ويحوطك بعنايته، ويهديك ويسددك.
واستغفر الله لي ولكم.
أيها الأخوة في الله:
استأذنكم في حديث خاص إلى أخ لي بينكم قد أراه في كل صف من صفوفكم، قد أراه بين كل اثنين منكم، أخ لي لم يسلم من أخطاء سلوكية وكلنا خطاء، لم ينج من تقصير بالعبادة وكلنا مقصر، ربما رأيته حليق اللحية طويل الثوب، بل ربما أسر ذنوبا أخرى ونحن المذنبون أبناء المذنبين.
أي نعم أريد أن أتحدث إليك أنت أخي حديثاً أخصك به، فهل تفتح لي أبوب قلبك الطيب، ونوافذ ذهنك النير، فو الله الذي لا إله غيره إني لأحبك.
أحبك حبا يجعلني أشعر بالزهو كلما رأيتك تمشي خطوة إلى الأمام، وأشعر والله بالحسرة إذا رأيتك تراوحُ مكانك، أو تتقهقرُ ورائك، أحدثك حديثا أسكب روحي في كلماته، وأمزق قلبي في عبارته، إنه أخي حديث القلبِ إلى القلب:
حديث الروحِ للأرواحِ يسري.........وتدركه القلوب بلا عنائي
أخي وحبيبي، هل تظنُ أن أخطائنا أمرا تفردنا به ولم نسبق إليه ؟
كلا فما كنا في يوم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، ولكن نحن بشر معرقون في الخطيئة، مذنبون يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم، وكل من نرى من عباد الله الصالحين لهم ذنوب وخطايا.
قال ابنُ مسعود لأصحابه وتلاميذه وقد تبعوه:
(لو علمتم بذنوبي لرجمتموني بالحجارة ).
لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
أي والله أخي لقد أحرقتنا الذنوب وآلمتنا المعاصي ولكن أيها الحبيب المحب أرعني سمعك يا رعاك الله:
إن هذه الخطايا ما سلمنا منها ولن نسلم.
ولكن الخطر أن تسمح للشيطان أن يستثمر ذنبك، ويرابي في خطيئتك، أتدري كيف ذلك؟
يلقي في روعك أن هذه الذنوب خندقا يحاصرك فيه، لا تستطيع الخروج منه.
يلقي في روعك أن هذه الذنوب تسلبك أهلية العمل لهذا الدين أو الاهتمام به.
ولا يزال يوحي إليك دع أمر الدين والدعوة لأصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة.
وهكذا يضخم هذا الوهم في نفسك حتى يشعرك أنك فئة والمتدينون فئة أخرى.
وهذه يا أخي حيلة إبليسية ينبغي أن يكون عقلك أكبر وأوعى من أن تمرر عليه.
فأنت يا أخي متدين من المتدينين.
أنت تتعبد لله بأعظم عبادة تعبد بها بشر لله، أنت تتعبد لله بالتوحيد.
أنت الذي حملك إيمانك فطهرت أطرافك بالوضوء وعظمت إلهك بالركوع وخضعت له بالسجود.
أنت أخي صاحب الفم المعطر بذكر الله ودعائه، والقلب المنور بتعظيم الله وإجلاله.
فهنيئا لك توحيدك، وهنيئا لك إيمانك.
إنك يا أخي صاحب قضية، أنت أكبر من أن تكون قضيتك فريق كروي يفوز أو يخسر.
أنت أكبر من أن تنتهي آمالك عند زوجة وبيت وولد.
أنت أكبر من تدور همومك حول شريط غنائي أو سفر للخارج.
أنت أخي أكبر من أن تدور همومك حول المتعة والأكل.
فذلك ليس شأنك، هذا شأن غيرك ممن قال الله فيهم:
)وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)(محمد:12)
أي أخي، أنت من تعيش لقضية أخطر وأكبر، إنها قضية هذا الدين الذي تتعبد الله به، هذا الدين الذي هو سبب لوجودك في هذه الدنيا، وقدومك إلى هذا الكون:
)وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)
وإذن لي أن أذكرك مرة أخرى أن تقصيري وإياك في طاعة ربنا، أو خطأي وإياك في سلوكنا لا يحلننا أبدا من هذه المسؤولية الكبرى، ولا يعفينا أبدا من هذه القضية الخطيرة.
انظر يا رعاك الله إلى هذين الموقفين، وأرجو أن تنظر إليهما بمجهر بصيرتك نظرة فاحصة.
هذا الصحابي الجليل كعب بن مالك :
أذنب ذنبا وتخلف عن الخروج مع المسلمين على غزوة تبوك، وعندما عاد المسلمون عوتب على خطئه، بل عوقب وهجر فلم يعد أحد يكلمه فتغيرت عليه الأرض فما هي بالأرض التي يعرف.
وتغير عليه الناس فما هم بالناس الذي كان يعرف، ذلك جعل كعب رضي الله عنه ينظر في لهفة وقد تنكرت له الأرض والناس فهو يلتمس حركة من بين شفة ، أو نظرة يحيى بها الأمل.
بينما هو كذلك طريدا شريدا لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة أو يحييه بابتسامة أو يواسيه بنظرة وهو الشاب الجلد الموفور الحماس، بينما هو كذلك إذا به يتلقى كتابا ممن ؟
من ملك غسان، الملوك يراسلونه ؟ نعم.
وفض الرسالة فإذا فيها الكتاب التالي: ( أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار مهانة فالحق بنا نواسيك).
الملوك يطلبونه أن يكون نديمهم وجليسهم عجبا.
أنظر يا رعاك الله، إن هذا الذنب وهذا العقاب لم يحلل كعبا من ولائه لدينه، لم يحلله من ولائه لعقيدته، لم يحلله من قضيته الكبرى، لقد نظر إلى هذا الكتاب على أنه جزء من الابتلاء. فحمل الكتاب ثم أوقد التنور وقال:
هذا والله من البلاء، فأحرق الكتاب في التنور وبقي يعاني مرارة الهجمة وألم القطيعة.
ثم أنظر أخرى إلى أبي محجن الثقفي رضي الله عنه:
رجل أبتلي بشرب الخمر فأدمنها ولم يستطع التخلص منها فكان يجاء به فيجلد، وفي معركة القادسية كان هذا الشارب الخمر جنديا يقاتل، ولم تكن خطيئته قيدا يصده عن الجهاد.
ويشرب الخمر وهو في نفير الجهاد فيؤتى به إلى سعد أبن أبي قاص رضي الله عنه، فيأمر أن يجعل القيد في رجله ويحبس، ويحرم من فرصة المشاركة في المعركة.
أهذا عقاب المخطئين؟ نعم.
هكذا يعاقب المخطئ ما دام قلبه يستشعر الولاء للدين، عوقب بأن تفوت عليه فرصة الاشتراك في القتال.
وكانت تجربة قاسية آلمت أبا محجن، آلمته أشد الألم حتى إذا سمع صليل السيوف ووقع الرماح وهزيم الخيل جعلت نفسه تجيش حسرات وجعل يُنشد:
كفى حزنا أن تلتقي الخيل بالقنى.......وأترك مشدودا إلي وثاقي
إذا قمت عناني الحديد وغلقت.........مصارع دوني قد تصم المنادي.
ألم وحسرة يشعر بها السكير شارب الخمر الذي لا يحول شربه الخمر ولائه لدينه.
وكان سعد رضي الله عنه قد أصابته القروح فلم يستطع الاشتراك في المعركة.
دعا أبو محجن زوجة سعد وقال لها:
يا سلمى فكي وثاقي وأعطيني فرس سعد البلقاء أقاتل عليها.
وولله الذي لا إله إلا هو لأن أنجاني الله لأعودن حتى أضع رجلي في القيد، وإن أنا قتلت استرحتم مني.
فأشفقت عليه ورحمته وحلت قيده ,أعطته الفرس، فركبها وأخذ رمح سعد فأخذ يجول بين الكتائب، فلا يفر على كتيبة إلا كسرها، ولا على جمع إلا فرقه وسعد ينظر بعين العجب ويقول:
الضرب ضرب أبي محجن، والكر كر البلقاء، وأبو محجن في القيد.
حتى إذا أنتهي النهار عاد أبو محجن رضي الله عنه وجعل رجليه في القيد، فلم تحتمل سلمى رضي الله عنها هذا الموقف، وذهبت إلى سعد تخبره الخبر، فما ملك سعد نفسه إلا أن قام فحل قيوده بيديه الكريمتين.
لم يملك سعد خال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفسه إلا أن قام إلى هذا الشارب للخمر يحل قيوده بيديه ويقول:
والله لا أجلدك على الخمر أبدا.
فقال أبو محجن: وأنا والله الذي لا إله إلا هو لا أشرب الخمر بعد اليوم أبدا، أما إني كنت أشربها يوم كنت أطهر بالجلد، أما الآن فلا.
أخي أشعر نفسك هذا الموقف ثم أعلم أن الخطايا ليست عذرا للتحلل من الولاء للدين، ولا من العمل له، ولا من نصرته، ولا من الغيرة عليه. ولولا ذلك لما أنتصر للدين منتصر ولما قام للدين قائم.
أيها الحبيب المحب:
إن الولاء للدين والغيرة عليه مسؤولية المسلم من حيث هو مسلم مهما كان عليه من تقصير، ومهما قارف من أثم مادم أن له بهذا الدين سبب واصل، وكل مسلم من المسلمين يتحمل مسئوليته في تأييد الدين ونصره:
) فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف: 157).
هل تذكرت أخي أنك جزء من هذه الأمة التي ينبغي أن تكون في المقدمة في عصر تتسابق فيه الأمم لصنع المستقبل، عصرا ينبغي أن نقتحمه متحدين فهل فكرت في إسهام حقيقي منك في ذلك ؟
هل تذكرت أخي أن دينك هذا الذي تدين الله به مستهدفا بعداء مرير وكيد طويل، واقرأ إن شئت عن قادة الغرب ماذا يقولون لتقف على طرف من هذا العداء. فهل فكرت وإياك في المواجهة ؟
أخي هل آلمتك مجازر المسلمين ورخص دمائهم فإذا هي أرخص من ماء البحر واستعانة العالم بمدن المسلمين تباد ودولهم تبتلع في الوقت الذي تصاب فيه الدنيا بالأرق لرهينتين غربيتين.
فهل تحركت فينا أخي روح الجسد الواحد ؟
أيها الحبيب المحب:
هل فتشت في نفس، وفتشت في نفسك وتساءلنا كم تبلغ مساحة الإسلام من خارطة اهتماماتنا ؟
كم نبذل للدين ؟
كم نجهد للدين ؟
كم نهتم للدين ؟
هل هو قضية في حياتنا تتراء لنا ؟ أم قد رضينا بعبادات تحولت إلى عادات !
إننا يا أخي إذا لم ننفر لهذا الدين بكليتنا فإنا ورب البيت نخشى أن ينالنا ذاك الوعيد الشديد الذي تكاد السماوات يتـفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أسمعه في قول ربك جل جلاله:
)إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:39)
لنعد السؤال على أنفسنا كرة أخرى:
كم يعيش الدين في حياتنا ؟
كم يشغل من مساحة اهتماماتنا ؟
إئذن لي يا أخي، إئذن لي بكلام أكثر تفصيلا:
هل أخذت يوما كتاب الله فقرأته مستشعرا أن الله جل جلاله بكبريائه وعظمته يخاطبك ويتحدث إليك أنت العبد الصغير القليل ؟
أخي أي تكريم لك ذلك التكريم العلوي الجليل، أي رفعة لك يرفعها هذا التنزيل، أي مقام يتفضل به عليك خالقك الكريم!
أخي هل جلست يوما تربي نفسك بقراءة سيرة نبيك وحبيبك محمد (صلىالله عليه وسلم) الذي تؤمن به، وتعبد الله بشرعه، الذي تحبه، والذي أحبك وأشتاق إلى لقائك، نعم نبيك اشتاق إلى لقائك وقال:
(وددت أنا رأينا إخوانا لنا، قالوا يا رسول الله أو لسنا إخوانك؟ قال لا أنتم أصحابي، أخواني الذين لم يأتوا بعد )، فهل اشتقت إلى نبي اشتاق إليك ؟
أخي هل نظرت وإياك إلى إخواننا الصالحين السابقين في الخيرات، الذين هم أكثر من جدا في الطاعة، نشاطا في الدعوة، وتوقيرا للسنة، هل نظرت إليه فكيف كانت نظرتك ؟
آما إني لا أتوقع منك أن تزدريهم، ولا أن تخذلهم، ولكن أحبهم تكن منهم فالمرء مع من أحب، وذلك يستلزم نصرتهم والذب عن أعراضهم والتعاون معهم.
أخي هل بذلت جهدا في الدعوة ولو كان قليلا ؟
هل أهديت لقريب أو زميل شريطا بعد أن سمعته ؟ أو كتيب بعد أن قرأته ؟
أخي، هذه المنكرات التي في مجتمعنا قد غص بها لم تنتشر في يوم وليلة، ولكن انتشرت لأن واحدا فعل وواحدا سكت. وهما شريكان في صنع ذلك المنكر.
فهل استشعرت وجوب مشاركتك في إزالة المنكر وعلمت أنه لابد أن تكون مساهم في الإنكار.
أخي إن في مجالسنا ومجتمعاتنا من يشوه على الناس مفاهيمهم ويلبس عليهم دينهم وينتقص أهل الصلاح منهم.
فهل وقفت منافحا ومدافعا بالتي هي أحسن لأنك تعلم أن السكوت حين إذ خيانة للمبدأ وجُبن في الدفاع عن الحق الذي تعتقده ؟
أخي لا تكتفي بالتعاطف مع الأخيار الأبرار وترى ذلك فضلا منك، بل يجب عليك أن تكون متعاطفا ومتعاونا أيضا لأنك تعلم أن ذلك من مسئوليتك.
أخي وحبيبي:
تذكر رعاك الله انك بإيمانك ذو نسبٍ عريق ضارب في عمق الزمن، وأنك واحد من ذلك الموكب المبارك الذي يقوده ذلك الركب الطيب، نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:
)إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)
إن الظن بك أخي حينئذ أن تكون معتزا بأيمانك.
واثقا من نفسك، باذلا لدينك ما يمكنك بذله.
داعيا لمبدئك وقضيتك متميزا عن غيرك ممن لا يهتم بهذا كله. متميزا عن السلبيين الذين نقول لهم:
كفوا أذاكم عن الناس فهو صدقة منكم على أنفسكم.
قد اختارنا الله في دعوته.......وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم........ومنا الحفيظ على ذمته
أخي:
ستبيد جيوش الظلام....... ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروجك إشراقها.....ترى الفجر يرمقنا من بعيد
أخي، لا أريد أن أهون الذنوب فإنها إذا اجتمعت على الرجل أهلكته.
لا أريد أن أهون الخطايا فرب خطيئة كان عقابها طمس البصيرة.
ولكن أقول ينبغي أن لا تكون الذنوب خندقا يحاصرنا عن العمل لهذا الدين.
أخي الحبيب، هذا شجن من شجون أهاتف به قلبك الطيب، بنصح المحب، ومحبة الناصح.
وإن في إيمانك ونقاء أعماقك ما يقنع فيك كل مريد الخير لك.
والله أسأل أن يكلأك برعايته، ويحوطك بعنايته، ويهديك ويسددك.
واستغفر الله لي ولكم.